/ الفَائِدَةُ : ( 64 ) /
19/03/2025
بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على محمد واله الطاهرين ، واللَّعنة الدَّائمة على أَعدائهم اجمعين. / لِكُلِّ عِلْمٍ لغته العِلْمِيَّة والمَعْرِفِيَّة التَّوْحِيدِيَّة / / لِكُلِّ قُوَّةٍ من قوى المخلوق إِمْكانِيَّةُ إدْرَاكُ الْآيَات الرَّبَّانِيَّة / تُسجَّل على مشارب ومدارس البشر المَعْرِفِيَّة بمختلف اِتِّجَاهَاتها ملاحظات وأُمور، منها: 1ـ إِنَّ في جملة مدارس البشر: مِسَاحَات بعضها بديهيَّة وبيِّنَة ومُحْكَمة، والأُخرى نظريَّة في عُرْضَةِ الخطأ والإخفاق. 2ـ لا توجد مدرسة بشريَّة قَطُّ اِسْتَوْعَبَتْ مطلق أَبواب المعارف، بل وكذا لا توجد مدرسة منها اِسْتَوْعَبَتْ كافَّة اللُّغات الْعِلْمِيَّة. وعليه: فعلى مَنْ يبتغي التنوُّع والتَّلوُّن والأُفق الشاسع، وقراءة بيانات الوحي: عدم الْاِنْحِبَاس بمشربٍ ومدرسةٍ خاصَّةٍ، بل يُراجع ويَطَّلِع على المدارس المَعْرِفِيَّة واللُّغات العِلْمِيَّة كافَّة؛ كيما يكون أَقرب للحَقِّ والصَّواب؛ فإِنَّ لِكُلِّ عِلْمٍ من العلوم ـ كالهندسة، والطب، والكيمياء، والفيزياء، والرياضيَّات ـ لغته المَعْرِفِيَّة؛ فالـمُتَخَصِّص بعلم الهندسة ـ مَثَلاً ـ يمكنه قراءة دلائل توحيديَّة لا يقرؤها المُتكلِّم والفيلسوف والحكيم؛ لأَنَّ النظام الرِّياضي الهندسي في الكون أَحد آيات عظمة الخلقة الإلهيَّة؛ ولا يمكن للمُتكلِّم والفيلسوف والحكيم من حيث هو قراءتها بقراءته. وعلى هذا فقس غيرها من التَّخصُّصَات(1)؛ فإِنَّهم يقرؤن دلائل في التوحيد ـ من خلال المعاجز المُذهلة في عظمة خلقة نسيج الإنسان أَو المكوِّنات الحيوانيَّة في الحيوان أَو في عَالَم النبات أَو البيئة ـ لم يقرءها المُتكلِّم والفيلسوف. وبالجملة: كُلُّ تخصُّصٍ يمكن أَنْ تكون لغته العِلْمِيَّة في المساحات البديهيَّة، بل والنظريَّة لغة من لغات المعارف. بل، كُلُّ قُوَّةٍ مِنْ قِوَى الإنسان ، بل من قوى جملة المخلوقات يمكن استخدامها لإِدراك آيات ربانيَّة باهرة دالَّة على عظمة القدرة الإلهيَّة، بل ولمعاينة عظمة غيب الغيوب سبحانه وتعالى عياناً. وخذ على ذلك المثالين التاليين: الأَوَّل: ما أدركه ( سحرة فرعون )؛ فإِنَّهم آمنوا بالنَّبيِّ موسى عليه السلام ؛ لتمتّعهم بقدرة روحيَّة، وهي: ( قدرة الخيال )(2)؛ فلكونهم نخبة وأَصحاب خبرةٍ في التَّصَرُّف في الصور الكونيَّة الماديَّة أَدركوا من خلال ستار قدرة الغيب: أَنَّ ما أَتَى به عليه السلام ليس من عَالَم الخيال قَطُّ، بل لمعان غيب ومعجزة، وتجلِّي لقدرة الغيب القاهرة، فأَدركوا ما لم يُدركه الحكماء والفلاسفة وأَصحاب الرِّياضات والمعنويَّات والعرفان في زمانهم، وسبقوهم للإِيمان، فسجدوا بخشوعٍ وخضوعٍ من دون مهلة، فأصبحوا سحرةً كفرة، وأَمسوا شهداء بررة. فلاحظ: بيانات الوحي، منها: بيان الإِمام الصَّادق عليه السلام : « ... ثُمَّ قال فرعون للملأ الَّذِي حولَه: [إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ] إلى قوله: [لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ](3) وكان فرعون وهامان قد تَعلَّما السِّحْرَ وإِنَّما غلبا النَّاس بالسِّحْرِ، وادَّعى فرعون الرُّبوبيَّة بالسِّحْرِ، فلمَّا أَصبح بعث في المدائن حاشرين، مدائن مصر كلّها، وجمعوا أَلف سَاحِرٍ، واختاروا من الأَلف مائة ومن المائة ثمانين، فقال السَّحَرَةُ لفرعون: قَدْ عَلِمْتَ: أَنَّه ليس في الدُّنيا أَسحر مِنَّا، فإنْ غَلِبْنَا موسى فما يكون لنا عندك ؟ قال: [إِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ](4) عندي، أُشارككم في ملكي ... فلمَّا أَرتفع النَّهار في ذلك اليوم، وجمع فرعون الخلق والسَّحَرَة، وكانت له قبَّة طولها في السَّماء ثمانون ذراعاً، وقد كانت لبست الحديد الفولاذ(5)، وكانت إِذا وقعت الشَّمس عليها لم يقدر أَحدٌ أَن ينظر إِليها من لمع الحديد ووهج الشَّمس، وجاء فرعون وهامان وقعدا عليها ينظران، وأَقبل موسى ينظر إلى السماء، فقالت السَّحَرَة لفرعون: إِنَّا نرى رجلاً ينظر إِلى السَّماء ولم يبلغ سِحْرُنا السَّماء، وضمنت السَّحَرَةُ مَنْ في الأَرض، فقالوا لموسى: [إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ](6) قال لهم موسى: [أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ](7) فأقبلت تضطرب مثل الحيَّات وهاجت، فقالوا: [بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ](8)(9) [فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى](10) فنودي: [لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى](11) فألقى موسى العصا فذابت في الأَرض مِثْل الرصاص ثُمَّ طلع رأَسها وفتحت فاها ووضعت شدقها العليا على رأس قبَّة فرعون، ثُمَّ دارت(12) والتقمت عصيَّ السَّحَرَة وحبالها، وغُلِبَ كلّهم وانهزم النَّاس، حين رأَوها وعِظَمهَا وَهَوْلها مِمَّا لم ترَ العين ولا وَصَفَ الواصفون مِثْله قبل، فقُتِلَ في الهزيمة من وطء النَّاس بعضهم بعضاً عشرة آلاف رَجُل وامرأة وصبيّ، ودارت على قبَّة فرعون، قال: فأَحدث فرعون وهامان في ثيابهما، وشاب رأسهما، وغشي عليهما من الفزع، ومَرَّ موسى في الهزيمة مع النَّاس فناداه الله: [خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى](13) فرجع موسى ولَفَّ على يده عباءة كانت عليه ثُمَّ أَدخل يده في فمها فإذا هي عصا كما كانت، وكان كما قال الله: [فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ](14) لَـمَّا رأَوا ذلك [قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ](15) فغضب فرعون عند ذلك غضباً شديداً، وقال: [آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ] يعني: موسى [الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ](16) [فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ](17) فقالوا له كما حكى الله عَزَّ وَجَلَّ : [لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ](18)... »(19). المثال الثَّاني: معجزة النَّبيّ عيسى عليه السلام في إحياء الموتى وإِبراء الأَكمه والأَبرص، فإنَّ أَوَّل من أَدركها وسبق للإيمان بها: أَطباء زمانه عليه السلام قبل الفلاسفة والعرفاء وأَصحاب الرِّياضات والمعنويَّات في ذلك الزمان. وصلى الله على محمد واله الاطهار . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) يجدر الاِلتفات في المقام إِلى الأَمرين التَّاليين: الأَوَّل: أَنَّ المُتخصِّص ـ في كُلِّ العلوم ـ إِذا لم يَطَّلع على الأُمور والمباحث والبحوث المُستجدَّة فسيتخلَّف لا محالة عن الرَّكب شعر بذلك أَم لا. وهذه قضيَّة مُهمَّة يجدر الاِلتفات إِليها. الثَّاني: أَنَّ تضخُّم العلوم ـ كـ: علم: أُصول الفقه، والفلسفة، والكلام ـ تعمقاً وتضخُّماً مضراً وأَمراً سلبيّاً، بل وجهلاً وذلك إِنْ كان خوضاً في التَّفريعات فحسب؛ فإِنَّه يُنسي المحاور الأَصليَّة. نعم، إِنْ تَضَخَّم محوريّاً كان مفيداً ونمواً للعلم؛ لأَنَّه يُصيّر البحث والباحث أَكثر إِحاطة بالمحاور. هذان منهجان مُتشابهان، لكن بينهما كمال البينونة. (2) قدرة الخيال تختلف عن قدرة العقل. (3) الشعراء: 34 – 38. (4) الشعراء: 42. (5) خ. ل: (لبست بالفولاذ المصقول). (6) الأعراف: 115. (7) الشعراء: 43 - 44. (8) الشعراء: 44. (9) خ . ل: (فهال النَّاس ذلك). (10) الأعراف: 67. (11) الأعراف: 68 - 69. (12) خ . ل: (وأَرخت شفَّتها السفلى) . (13) طه: 21 . (14) الشعراء: 46. (15) الشعراء: 47 - 48. (16) الشعراء: 49. (17) الأعراف: 123 – 124. (18) الشعراء: 50 – 51 . (19) بحار الأنوار، 13: 120 / ح21